في سوريا، لم يكن الصمت خياراً شخصياً بقدر ما كان سياسة إعلامية وثقافية مكرّسة، مجتمع ميم ع، بقي لسنوات “موضوع غير مرئي”، تتجاهله الصحافة، وتجرّمه السلطة، ويتجنبه المجتمع، لكن رقعة الصمت هذه بدأت تتصدّع مع اتّساع الفضاء الرقمي، وظهر جيل جديد لم يكن مستعداً للاختباء مجدداً.
محاولات أولى خلف الأبواب المغلقة
في فترة ما قبل الثورة الرقمية، كان التفاعل مع مفاهيم مثل “الميول” و”الهوية الجندرية” يحدث همساً، وغالباً بمزيج من الخوف والارتباك، لم تكن هناك مصادر إعلامية محليّة يمكن الرجوع إليها، حتى محركات البحث كانت بمثابة مرآة لخطاب التجريم أو “الطب النفسي التصحيحي”.
إلا أن بعض المنتديات المغلقة، التي تُدار بأسماء مستعارة، بدأت تلعب دوراً بدائياً في تبادل التجارب والأسئلة، لم تكن هذه المساحات آمنة دائماً، لكنها مثلت أول اختراق في جدار الصمت!
الإنترنت: بداية التمثيل لا الاكتفاء بالوجود
مع اتّساع نطاق الإنترنت في بدايات الألفينات، بدأت تظهر مدونات وصفحات شخصية تدار من داخل سوريا وخارجها، تقدم قصصاً وتجارب مكتوبة بلغة حميمية جنسانية وواقعية، ثم جاءت ثورات التواصل الاجتماعي، لتمنح المجتمع أدوات تمثيله لأول مرة: صفحات على فيسبوك، قنوات بودكاست، مجلات إلكترونية تصدر بشكل دوري، ربما كان من أبرزها “مجلة موالح”، التي كانت تنشر مقالات وشهادات عن الهوية الجندرية والميول الجنسية، بلغة سورية محلية، وبأسلوب يمزج بين السخرية والصدق، فيما بعد ظهرت عدة صفحات ومنصات على مواقع التواصل الاحتماعي، مثل LGBTبالعربي، ومنصة أطياف، التي وفّرت محتوى إخباري، تثقيفي، ومدونات وشهادات شخصية، خاصة بمجتمع الميم ع.
إلى جانب ذلك، برزت منظمة حركة حراس المساواة GEM كداعم رئيسي لمجتمع الميم ع السوري وتبني قضاياه، وفتحت مجالها الافتراضي ليكون منبراً للتدوين والتعبير والتثقيف وتبادل التجارب الكويرية، وتقوم اليوم بدعم وعرض بودكاست “كوير بالسوري” وهو مجموعة حوارات كويرية سورية، يعرض على منصتي GEM وLGBTبالعربي، وواحدة من أبرز الشهادات في هذا التحوّل جاءت من الناشط الكويري “جاد” المتواجد داخل سوريا، في إحدى حلقات برنامج “كوير بالسوري” حين قال: “مجرد كتابة كلمة مثل ’كوير‘ أو ’مجتمع ميم‘ على محرك بحث، صارت تقودك إلى مواد تشبهك، تفهمك، وتشعرك أنك جزء من مجتمع كامل” يشير “جاد” إلى التطوّر اللافت في توافر المعلومات الرقمية حول مجتمع ميم، إذ لم يعد الاكتشاف الذاتي محصوراً بالتجربة الشخصية، أو المواد الإعلامية النادرة وصعوبة الوصول، بل أصبح متاحاً عبر كلمات بحث بسيطة تفتح أبواباً على مصادر إعلامية، مواد إرشادية، وتجارب تشبهه، وهذا التحوّل الرقمي بدوره لم يسهم فقط في فهم الهوية، بل في الشعور بالانتماء لمجتمع أوسع يتقاطع مع قضاياه وآماله.
هذه الكلمات تكثّف جوهر التحوّل، حيث لم تعد المعرفة لم تعد امتيازاً بل أداة بقاء، والانتماء لم يعد أمنية بل حالة ممكنة!
نحو ذاكرة إعلامية كويرية سورية
ظهور منصات ومواقع متخصصة رقمية تهتم بقضايا مجتمع ميم السوري، كانت بمثابة مساحة للإبداع البصري واللغوي، من شهادات، ومدونات، ورسوم، بيانات سياسية وتقارير، ونداءات تضامن، بعضها تطرّق لموضوعات كانت سابقاً خط أحمر، مثل الدين والهوية والعبور الجنسي والجندري!
إضافةً لما سبق، بدأت هذه المنصات والصفحات والمنظمات، تنشر توعية بالصحة النفسية والجنسية، مصممة بلغة بسيطة، تستهدف الجيل الشاب وتحترم خصوصيته، وتوفر جلسات استشارية ودعم نفسي كالتي تقدمها GEM عبر خط الدعم، لنجد أنها ليست مجرد حالة ترف يرنو إليها مجتمع الميم ع، إنما ضرورة، وضرورة ملحّة!
تراكُم هذا الإنتاج الإعلامي يشكل نواة لذاكرة جمعية، أرشيف رقمي كويري سوري بدأ يتكوّن، يدوّن ما تم تجاهله عمداً، ويمنح الجيل القادم أدوات ليروي قصته بنفسه، القصص التي طُمست عمداً، اليوم يعاد كتابتها بأقلام أصحابها، الأرشيف الكويري السوري يوثق نبض مجتمع لطالما وصف بأنه “خارج السطر”، ليقاوم هذا الأرشيف النسيان، ويمنح أفراد مجتمع ميم ع، مساحة يعبّرون بها عن وجعهم/ن، فرحهم/ن، وتحولاتهم/ن.
سامي الأغباشي، ناشط كويري سوري