رائحة الياسمين التي تأبى الرحيل: عن شاب مثلي في سوريا الجديدة

لقاء وسط عبق الياسمين

حين زرته في منزله، جلست في غرفته الصغيرة، كانت رائحة الياسمين تتسلل من نافذته المفتوحة، ممزوجةً برائحة القهوة التي تختمر على مهل، وكأنها تحاول مقاومة الزمن مثلنا، نظر إليّ بعينين تحملان بقايا أحلامٍ لم تكتمل، وقال: “أتعرف؟ رائحة الياسمين هذه كانت رفيقة طفولتي، لكنها كانت تخنقني أيضاً، كانت تذكرني بأنني في وطنٍ أحببته، لكنه لم يحبني كما أنا”.  

أخذ رشفةً من قهوته وكأنها تمنحه القوة ليبدأ بسرد حكايته! 

الطفولة: الحب في زمن الخوف! 

كبرتُ في حيٍّ بسيط، بيت جميل، لكن ليس بما يكفي ليحمي طفلاً مثلي من الشعور بالغربة داخل نفسه، كنت أراقب الصبية في الشوارع، ألعب معهم وأضحك، لكن قلبي كان يحمل سرّاً لا أجرؤ على كشفه.  

كان والدي يقول لي دائماً: “كن قويّاً”، لكن القوة بالنسبة لي لم تكن في صراخ أو تحدٍ، بل في القدرة على إخفاء حقيقتي، كنت أختبر الحب في صمت، أُعجب بسرّية، وأحلم بسرّية، وأخاف علناً. 

سنوات الأسد: الخوف يصبح ظلاً بين رائحة الياسمين! 

تحت حكم الأسد، لم يكن الخوف مجرّد شعور، كان قانوناً غير مكتوب، أدركت مبكراً أنني لا أمتلك رفاهية أن أكون كما أنا، لم أكن أخاف فقط من الاعتقال أو العنف، بل كنت أخاف من أن أكون مكشوفاً، من أن ينظر إليّ أحد فأشعر بأنني غير مرغوب، بأن وجودي ذاته خطيئة!  

في الجامعة، كنت أراقب حياتي كأنها مشهد من فيلم مرعب؛ كل كلمة محسوبة، كل خطوة مدروسة، وكل إيماءة يجب أن تكون في مكانها الصحيح كي لا تثير الشك، كان عليّ أن أعيش نصف حياة، أن أكون شخصاً أمام الناس، وأن أحتفظ بالآخر داخلي، مكاناً لا يراه أحد سوى نفسي.  

في ليلةٍ لا تُنسى، كنت أسير في دمشق القديمة، في شارع ضيق، يتسلل من نوافذه نور باهت، تفوح منه رائحة الملوخية المطهوة بعناية، وأصوات الصحون المتراصة فوق بعضها تعكس دفء البيوت التي لم يكن لي فيها مكان، فجأة، قطع صوتٌ حاد سكون الشارع: “أنت! تعال لهون”.  

تسارعت دقات قلبي، شعرتُ أن كل شيء حولي توقف، حتى رائحة الياسمين اختفت للحظات، كأنها تتوارى خوفاً، اقترب مني رجالٌ بعيونٍ متفحصة، أحدهم يمسك بهاتفه ويتفحصني كأنني رقمٌ يجب أن يُسجّل في ملفات لا أرغب في أن أكون جزءاً منها، سألني أحدهم: “ليش عم تمشي لحالك؟ وين كنت؟”

أجبتُ بعباراتٍ مرتبة مسبقاً، بلكنةٍ مصقولة كي لا يكون فيها أي شيءٌ يثير الشك، لم يقتنعوا بسهولة، لكنني غادرت بعد دقائق بدت وكأنها ساعات، ذلك اليوم، تعلمت كيف يمكن للهواء أن يصبح ثقيلاً، وكيف يمكن لرائحة الياسمين أن تختلط بالخوف، لا بالحب! 

سوريا الجديدة: بين المطبخ والتأمل والحرية!

عندما سقط النظام، كنت أشاهد الحدث من نافذتي، ويدي تمسك بكوب الشاي الذي أهتز بين أصابعي، كنت سعيداً، لكن السعادة كانت مرتبكة، كانت تحمل طعم الشك، هل ستكون الحرية لي أيضاً، أم أنها مجرد مساحة أوسع للخوف؟  

في البداية، ظننت أن كل شيء سيتغيّر،أنني لن أحتاج للاختباء بعد الآن، لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيداً، كان هناك من يرون التحرير فرصة لإعادة بناء مجتمع أكثر عدلاً، وكان هناك من يرونه فرصة لإعادة فرض السيطرة بأساليب جديدة، لا تقل قسوة عن السابقة. 

اليوم، أحاول أن أستعيد تلك اللحظات المسروقة، أن أصنع لنفسي حياةً تشبهني، حين أقف في المطبخ، وأضع القهوة في الركوة النحاسية، أشعر بشيء يشبه الأمان، صوت الفقاعات الصغيرة حين تبدأ القهوة بالغليان يشبه قلبي حين ينبض بالأمل، رغم كل شيء!  

أحب صنع الطعام، ليس فقط لأنه لذة حقيقية، بل لأنه مساحة للراحة وسط عالم لا يزال يحاول أن يحدد من يستحق الحياة الكريمة ومن لا، حين أطبخ، أترك البهارات تتحدث بدلاً عني، أراقب زيت الزيتون وهو يحتضن قطع الباذنجان في المقلاة، أسمع صوت القرمشة حين يكمل الخبز استوائه، وأشعر أنني أخيراً، أمتلك شيئاً لا يستطيع أحد أن يأخذه مني.  

اليوم، أسير في الشوارع بحرية أكبر، لكن ليس بالحرية التي كنت أحلم بها، أشعر بأن هناك هواءً جديداً، لكنه لا يزال يحمل آثار الماضي، بعض الأصدقاء يتحدثون عن الأمل، عن مستقبل أكثر تسامحاً، لكنني أسمع أيضاً قصصاً عن الاعتقالات، عن العنف ضد أصدقائي، عن الكلمات القاسية التي لا تزال تُلقى كالسكاكين في الطرقات.  

أجلس أحياناً على الشرفة، أستنشق الياسمين الذي عاد ليكون رفيقاً لا يخيفني، أغمض عينيّ وأتذكر أنني هنا، أنني موجود، أنني أتمسك بحقي في أن أكون كما أنا، مهما كانت الرياح معاكسة.  

سامي الأغباشي، ناشط سوري كويري 

شارك!