تركيا: عودة “طوعية” تحت ضغط التعذيب “إذهب إلى سوريا ومُت هناك”

مقدمة: 

لا تزال حملة الشرطة التركية مستمرة في ملاحقة “المخالفين” كما تقول من اللاجئين/ات السوريين على أراضيها، وبينما يعد مبدأ حظر الإعادة القسرية أحد أهم مبادئ اتفاقية جنيف للاجئين والبروتوكول التابع لها والتي تعد تركيا طرف فيها، حيث تنص المادة 33  على أنه “لا يجوز لأي دولة متعاقدة أن تطرد لاجئا بأي صورة من الصور إلى حدود الأقاليم التي تكون فيها حياته أو حريته مهددتين فيها بسبب عرقهم أو دينهم أو جنسهم أو انتمائهم إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية”، وانتهاكها المادة 3 في اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعت عليها في عام 1984، ثبت أن السلطات التركية تضغط على المرحلين/ات وتجبرهم على التوقيع على أوراق “العودة الطوعية” وفق شهادات 11 شخصا وثقت حركة حراس المساواة ترحيلهم/ن من تركيا إلى شمال غرب سوريا، نتناول قصتهم في هذا التقرير. 

تقوم الحكومة التركية بإيقاف اللاجئين/ات السوريين/ات ونقلهم/ن إلى مراكز الترحيل ومن ثم إلى مراكز الترحيل الحدودية، ثم تقوم بتسليمهم/ن للمعابر الحدودية بعد التوقيع على أوراق “العودة الطوعية” تحت الضغط والإجبار. 

لكل ولاية تركية مركز أو أكثر من مركز للترحيل، تسمى أيضاً بمعسكرات الترحيل

تتجاهل السلطات التركية المخاطر الجدية التي قد تصل إلى إنهاء الحياة والتي قد تواجه الأشخاص حال ترحيلهم إلى سوريا، لا سيما إذا كانوا من أفراد مجتمع الميم ع. 

دائما ما تعايش الفئات المهمشة في سوريا، مواقف من العنف الجسدي واللفظي المبني على التحيز الجنسي، مثل أفراد مجتمع الميم ع، وقد تصل عقوبة العلاقات المثلية إلى الإعدام في مناطق شمال غرب سوريا التي يعيش سكانها تحت وطأة تعقيدات اجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية متصاعدة بسبب تبعات الحرب وقواعد فكرية وحياتية أكثر تشددا جلبتها سيطرة عدة فصائل راديكالية على المنطقة.

ساد في منطقة شمال غرب سوريا تدخل الشيوخ ورجال الدين المرتبطين بالفصائل وهيئات شرعية غير مستقلة في تنظيم قضايا المنطقة القانونية، وتطبق السلطات في إدارتها القضائية كلا من القانون العربي الموحد والقانون العربي السوري بمرجعية دستور عام 1950. 

وفي مناطق النظام السوري يجرم القانون السوري العلاقات المثلية ويمكن الاستناد في توجيه هذه التهمة على المادة 520 من قانون العقوبات لعام 1949 التي تنص على أن “كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها القانون بما قد يصل إلى 3 سنوات”. 

منهجية: 

بناء على أسلوب البحث والتحليل وجمع 11 شهادة من 11 شخصا سوريا من أفراد من مجتمع الميم ع الذين تم ترحيلهم إلى سوريا في الفترة الممتدة من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023 إلى آذار/ مارس 2024، نلقي الضوء سريعا على قصص 5 منهم قمنا بترميز أسمائهم بشكل عشوائي.

ملخص: 

  • تعرض 11 سوريا من مجتمع الميم ع للترحيل من قبل السلطات التركية برغم حملهم الأوراق النظامية.
  • تعرضت جميع الحالات للتعذيب والعنف اللفظي من قبل عناصر الأمن وموظفو الهجرة التركية.
  • مارست قوى الأمن وموظفي الهجرة الضغط على جميع الحالات للتوقيع على أوراق “العودة الطوعية”. 
  • اثنان من أصل 11 تعرضوا للاعتقال في سوريا من قبل هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا).
  • نفس الشخص الذي اعتقل من قبل هيئة تحرير الشام، اعتقل مجددا من قبل عناصر الجيش الوطني المدعوم من تركيا. 
  • حالة واحدة من أصل 11 استطاعت العبور مجددا إلى الأراضي التركية، بينما يعيش الباقي في سوريا. 
  • جميع الحالات عبرت عن شعورها بالخطر إثر تواجدها في شمال غرب سوريا ومنطقة تل أبيض. 
  • لدى حالتين من أصل 11 ملف إعادة توطين في الأمم المتحدة. 
  • واجهت جميع الحالات مصاعب في إيجاد مأوى. 
  • بعض الحالات تعاني في الأصل من وضع صحي تفاقم بعد الترحيل، حالة واحدة تواجه وضعا حرجا. 

خلفية:

تعج مناطق شمال غرب سوريا بالسلطات المتعددة، وتعتبر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) أحد أقوى الفرق المتحكمة بالمنطقة، حيث تسيطر على كامل محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب، في حين تسيطر باقي الفصائل المعروفة بالجيش الوطني والمدعومة من قبل تركيا على مدن عفرين واعزاز والباب والراعي وجرابلس بريف حلب وتل أبيض ورأس العين بريف الرقة وريف الحسكة. 

وبرغم الفوضى الأمنية وغياب الاستقرار في مناطق شمال غرب سوريا لا أن الحكومة التركية لا زالت تواصل حملتها الأمنية لملاحقة السوريين/ات ممن لا يملكون أوراقا نظامية كما تقول، وتقوم بإرسالهم/ن إلى ما تسميه “المناطق الآمنة” وهو مصطلح تستخدمه الحكومة التركية لتبرير إجراءات ترحيل السوريين/ات إلى مناطق نفوذها في شمال غرب سوريا.

وبحسب آخر الإحصاءات الحكومية هناك 3 ملايين و279 ألف لاجئ سوري يحمل بطاقة الحماية المؤقتة، وهي بطاقة تعريفية تمنح للاجئين/ات السوريين، توقفت عدة ولايات تركية عن منحها منذ عام 2019 مثل ولايتي إسطنبول وأورفا، وتفرض الحكومة التركية على حاملي بطاقة الحماية المؤقتة استخراج إذن سفر للتنقل بين الولايات. 

وكانت قد كشفت في وقت سابق منظمة هيومن رايتس ووتش عن أعداد من تم ترحيلهم خلال سنة 2023 حيث ناهز العدد 57 ألف سوري، وهو ضعف الرقم في سنة 2022، بينما كشف رئيس إدارة الهجرة في 5 أيار/ مايو من هذا العام أن نحو 111 ألف سوري تم ترحيلهم “طواعية” إلى بلدهم الأم منذ أيلول/ سبتمبر 2023.  

 تأتي عمليات الترحيل وسط اتهامات لأنقرة بمخالفة القوانين الخاصة باللاجئين/ات، واتهامات لعناصر الأمن الأتراك بارتكاب عدة انتهاكات جسيمة منها ممارسة التعذيب الجسدي والإساءات اللفظية بحق المرحلين/ات، وتجاهل أي وضع صحي أو حالة استثنائية مرضية أو مخاطر أمنية على الحياة وهو ما يتطابق مع رواية الشهادات التي جمعناها في هذا التقرير. 

عنف وتحرش جنسي وتحريض: 

يملك كلا من ح. ل و م. د وهما شابان سوريان مثليان مقيمان في تركيا أوراقا رسمية تخولهم البقاء في البلاد، لا يعرف أحدهم الآخر، إنما القاسم المشترك بينهم، هو أن لكليهما ملفات لإعادة التوطين في الأمم المتحدة، لكن ذلك لم يمنع السلطات التركية من ترحيلهم إلى سوريا. 

يقول ح. ل إن الشرطة في اسطنبول قامت بإيقافه والسؤال عن أوراقه بسبب مظهره الخارجي، وعند علمها بهويته السورية قامت بنقله إلى معسكر توزلا حيث بقي هناك لمدة يومين، تم نقله بعدها إلى معسكر حران، وبعد 4 أيام نقل إلى معسكر شانلي أورفا للترحيل SANLIURFA GERİ GÖNDERME MERKEZİ BARINAN TANITIM KART، هذا المخيم الذي كان منعطفا آخر في رحلة من الرعب عاشها ح. ل.

“عندما أخبرت مدير المخيم بأنني مثلي ولدي HIV ليتعاطف مع حالتي، قام بشتمي وتحريض الموجودين في المخيم” يقول ح. ل إن هذه الحادثة جلبت معها فصولا من العنف الجسدي واللفظي وحتى التحرش الجنسي، “سجنت في غرفة براد داخل المخيم لمدة يوم كامل مع مجموعة أخرى من الموقوفين” استمرت إقامة ح. ل في معسكر شانلي أورفا لمدة 15 يوما، حتى تم ترحيله إلى إدلب بعد إجباره التوقيع على أوراق “العودة الطوعية”. 

وبينما كان م. د يجري زيارة إلى غازي عنتاب بعد استخراج إذن سفر يسمح بموجبه قانونيا الذهاب إلى وجهته، أوقف من قبل عناصر الأمن التركي، التي قررت بأنه مخالف رغم امتلاكه إذن سفر “تعرضت للضرب أمام الناس أثناء تكبيلي ونقلي للباص”.

يقول م. د إنه تعرض للتعذيب من قبل عناصر الجندرمة في مركز أوزلي للترحيل في غازي عنتاب، ووابل من الشتائم والإهانات حينما أخبرهم أنه مثلي الجنس ومن الخطر أن يتم ترحيله إلى شمال غرب سوريا. 

سوريا.. الاعتقال من المعبر والتحويل إلى القاضي بسبب علم المثليين: 

بمجرد وصول م. د إلى الجانب السوري من خلال معبر باب الهوى، قام عناصر أمن يتبعون لهيئة تحرير الشام بإيقافه والتحقيق معه، وعثروا بعد مصادرة هاتفه على تطبيقات للمواعدة مخصصة لأفراد مجتمع الميم ع، هذا الأمر أدى إلى احتجازه وتعرضه للتعذيب وتهديده بالقتل، إلى أن تم نقله في نفس اليوم لإجراء فحص طبي شرعي بعد نفيه التهم الموجهة له باعتباره مثلياً. 

“لم تثبت نتائج الفحص الطبي أي شيء. هددوني بالمراقبة المستمرة” أفرج عن م. د في اليوم التالي، ويشير إلى أنه أجبر على حضور دورة شرعية في المسجد. 

أما ح. ل فقد كانت تنتظره جولات أخرى من الاحتجاز داخل سوريا، بدأت حينما قام عناصر يتبعون لهيئة تحرير الشام باحتجازه دون سبب واضح، سرعان ما أطلق سراحه بعد تدخل حركة حراس المساواة من خلال خطة حماية، لكن الأصعب كان عندما أوقفته الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني في أثناء هروبه إلى مدينة اعزاز “بعد وصولي إلى مدينة إعزاز، قررت شراء المياه، لأتفاجأ بعناصر من الشرطة العسكرية تقف جانبي. نظر أحدهم إلى الحقيبة المحمولة على ظهري واتهمني بمحاولة العبور غير الشرعي إلى تركيا. عندها قاموا بتفتيش هاتفي ووجدوا شعار علم المثليين في هاتفي”.

تم تحويل ح. ل إلى قاضي المحكمة المدنية في إعزاز حيث كان سيواجه عقوبة تتراوح بين الخمس سنوات والإعدام وفق القانون العربي السائد في المنطقة، لكن استطاعت حركة حراس المساواة وشركائها من خلال خطة حماية التدخل للإفراج عنه. 

“قال لي الضابط: إذهب إلى سوريا ومت هناك”: 

خلال زيارة إلى منطقة أرناؤوط كوي في اسطنبول أوقفت عناصر الأمن التركية س. ه وطلبت منه فحص وثائق إقامته، يقول إن العناصر ادعت اختفاء عنوانه من النظام، وقامت باعتقاله ونقله إلى معسكر الترحيل في منطقة توزلا لمدة ثلاثة أيام، حيث تعرض هناك للإساءة اللفظية والجسدية من قبل موظفو الأمن.

في مركز توزلا باسطنبول طلب س.ه العناية الطبية “لمناقشة ميولي الجنسية مع الطبيب” إلا أن الضابط المسؤول منع الطبيب من تقديم المساعدة، “وقال لي: اذهب إلى سوريا ومت هناك”.

نقل الشاب بعدها إلى مركز الترحيل في ولاية كلس الحدودية مع سوريا، يقول إنه تعرض هناك للعنف الجسدي طوال أربع ساعات إلى أن وقع على أوراق “العودة الطوعية”، ليتم إرساله إلى أعزاز في مساء اليوم نفسه.

من خشبة المسرح إلى سوريا:

بينما كان يتزين ليل اسطنبول بأضواء الميلاد وتشهد المدينة بداية شتاء جديد بارد، و تتحضر لاستقبال عام 2024، كان ع. ب يعتلي خشبة المسرح، يقدم عرضا مسرحيا في معرض الكتاب العربي، وبينما لا زال صوت تصفيق الجمهور يتردد في ذهنه أثناء عودته مساء إلى محل إقامته في اسطنبول، أوقفت الشرطة التركية ع. ب، وقامت باحتجازه ونقله إلى مركز الترحيل في منطقة توزلا رغم امتلاكه إذن سفر إلى إسطنبول لأداء مسرحيته.

مكبل الأيدي، في باص يسلك الطريق إلى معبر باب الهوى الخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، يصل ع. ب إلى المحطة الأخيرة قبل سوريا في ولاية كلس، يقول إنه وقّع بعد الضرب والشتائم على أوراق “العودة الطوعية”. 

الضغط للتوقيع على أوراق “العودة الطوعية” يشمل الحالات الصحية أيضاً: 

لم تشفع الحالة الصحية لـ ن. ر وامتلاكه بطاقة الحماية المؤقتة واستخراجه إذن سفر بغرض العلاج في ولاية غازي عنتاب من أن تقوم عناصر الجندرمة التركية باحتجازه وترحيله والضغط عليه لتوقيع أوراق “العودة الطوعية” إلى منطقة تل أبيض بريف مدينة الرقة الخاضعة لسيطرة عناصر الجيش الوطني المدعوم من تركيا. 

يقيم ن.ر الآن بعد مغادرته مشفى تل أبيض وتلقيه العلاج، مع عدد من الشبان السوريين، داخل مساكن جماعية اتخذها المرحلون من تركيا مكانا لهم، لكنه لا زال يعاني من فقر دم شديد، نقص في المناعة، والتهاب صدري.

ملخص تحليلي

تظهر لنا البيانات السابقة عدة نقاط: 

  • ترتفع احتمالية تعرض اللاجئ/ة السوري/ة في تركيا للترحيل فيما لو كان/ت فردا ينتمي لإحدى الفئات الاجتماعية المهمشة، مثل فئة المثليين/ات مزودوجو/ات الميول الجنسية والعابرون/ات أو من أصحاب الشكل الغير معياري/ أو الغير مرتبط بثنائية الذكر والأثنى. 
  • ترتفع احتمالية التعرض للعنف الجسدي واللفظي من قبل عناصر الأمن في تركيا عندما يكون الشخص المرحل فردا من الفئات والمجتمعات المهمشة مثل مجتمع الميم ع.  
  • أظهر عناصر الأمن وموظفو الهجرة في تركيا سلوكا تمييزيا ومعاديا تجاه من عرف/ت عن نفسه/ا بأنه مثلي/ة، عابر/ة.
  • عدد من الحالات شعرت بالضغط النفسي الشديد وأبلغت عناصر الشرطة وإدارة معسكرات الترحيل بميولها الجنسية لتجنب الترحيل. 
  • لا تستثني حملة الشرطة التركية أصحاب الوضع الصحي أو المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسب. 
  • يتبين أن الحملة التي تقوم بها السلطات التركية عشوائية ولا تستهدف “المخالفين” كما تقول. 
  • تستخدم الحكومة ووسائل الإعلام الرسمية مصطلح “العودة الطوعية” ومصطلح “المناطق الآمنة” و”المخالفين” لتبرير عمليات الترحيل القسري الواسعة . 
  • يتناغم مصطلح “العودة الطوعية” مع سياسة كل من لبنان والعراق في التعامل مع قضية اللاجئين السوريين. 

توصيات: 

  • توفير استجابة عاجلة للمرحلين/ات بما يخص الإيواء وتقديم الحماية.
  • تأمين الدعم الصحي والعناية الطبية.
  • تأمين الدعم النفسي والقانوني.
  • ابتكار آلية لحماية الأفراد المرحلين المعرضين لخطر مضاعف من الترحيل مثل أفراد مجتمع الميم ع والمدافعون/ات عن حقوق الإنسان كتأمين الانتقال المؤقت أو إعادة التوطين وفق إجراءات استثنائية.
  • إيجاد آلية مراقبة أممية للنظر بالمخاطر المحتملة والعمل على إيقاف الترحيل ومنع حدوث أي انتهاكات بحق المرحلين/ات.

قد تبرز أسئلة إضافية بناء على ما سبق من معطيات، عن تأثير الحملات الأمنية للحكومة التركية في تأجيج العنصرية والاحتقان تجاه السوريين، وعن مدى قدرة الحكومة على تسييس قضايا اللاجئين بما يتسق مع سياستها الخارجية. 

شارك!